الدولة الرستمية: نشأتها وسقوطها

الدولة الرستمية: تجربة سياسية ومذهبية في غرب العالم الإسلامي

تُعد الدولة الرستمية واحدة من أبرز التجارب السياسية التي ظهرت في الغرب الإسلامي خلال العصر الوسيط، والتي جسّدت مزيجًا فريدًا من الدعوة المذهبية والنظام السياسي المستقل. نشأت الدولة الرستمية في قلب المغرب الأوسط (الجزائر الحالية)، وأُقيمت على أسس المذهب الإباضي، واستمرت لما يقارب القرن والنصف، مثّلت خلاله نموذجًا لحكم يجمع بين الزهد، العدالة، والعلم، والاستقلال عن الخلافة العباسية.

الخلفية التاريخية لظهور الدولة الرستمية

في القرن الثاني الهجري، شهد المغرب الإسلامي توترات مذهبية وصراعات سياسية نتيجة الامتداد السريع للدولة الأموية ثم العباسية، مما خلق فراغًا سياسيًا واسعًا في المناطق البعيدة عن مراكز الحكم المركزية، لا سيما في المغرب الأقصى والمغرب الأوسط. في هذا السياق، وجد المذهب الإباضي، الذي نشأ بداية في البصرة بالعراق، طريقه إلى شمال إفريقيا عبر دعاة مبشرين نشطوا في نشر أفكارهم بين قبائل البربر، خصوصًا بعد سقوط الدولة الأموية عام 132هـ.

لعب الإمام عبد الرحمن بن رستم الدور الأبرز في تأسيس الدولة الرستمية، وهو من أصل فارسي وُلد بالبصرة وتلقى علومه في المذهب الإباضي، ثم هاجر إلى شمال إفريقيا حيث وجد مناخًا ملائمًا لنشر مذهبه. بعد انهيار الدولة الإباضية القصيرة في تاهرت إثر خلافات داخلية، تمت مبايعته إمامًا عام 160هـ، لتبدأ الدولة الرستمية في التشكل من جديد تحت قيادته.

عبد الرحمن بن رستم: المؤسس والإمام الأول

يُعتبر عبد الرحمن بن رستم المؤسس الحقيقي للدولة الرستمية، وقد جمع بين العلم والورع والحنكة السياسية، مما أهّله لنيل ثقة القبائل والبربر والدعاة الإباضيين. اتخذ من مدينة تاهرت عاصمةً له، حيث أسّس فيها دولة مزدهرة قائمة على الشورى والعدل والورع، وكانت تاهرت قبلة للعلماء والتجار والفارين من الاضطهاد المذهبي والسياسي من مختلف أرجاء العالم الإسلامي.

تميز حكم عبد الرحمن بالزهد والتقشف وعدم الترف، وقد كان يعيش كأحد أفراد المجتمع دون مظاهر فخامة، ويقوم بنفسه بأعماله، مما منحه مكانة روحية عالية بين أتباعه. كما وضع أسس النظام الإداري والعسكري والسياسي للدولة، واعتمد في ذلك على مبدأ الشورى ومراعاة المصلحة العامة.

هيكل النظام السياسي الرستمي

اتّسم النظام السياسي في الدولة الرستمية بطابع إمامي يختاره أهل الحل والعقد من العلماء والوجهاء والقيادات المحلية، وليس وراثيًا بحتًا، رغم انتقال الإمامة غالبًا داخل أسرة ابن رستم. كان الإمام يُختار بناءً على شروط دقيقة تشمل العلم، العدالة، الزهد، والقدرة على إدارة شؤون الناس.

كما ضمّت الدولة مجلسًا من العلماء والزعماء المحليين الذين كانوا يشاركون في سنّ السياسات العامة واتخاذ القرارات، مما أعطى للحكم طابعًا جماعيًا بعيدًا عن الاستبداد. هذا الهيكل السياسي، القائم على مبادئ الشورى والرقابة الدينية، ساهم في استقرار الدولة نسبيًا على مدى أكثر من قرن.

العاصمة تاهرت: مركز حضاري وعلمي

لعبت تاهرت، عاصمة الدولة الرستمية، دورًا مركزيًا في النهضة الفكرية والعلمية في الغرب الإسلامي. كانت المدينة مركزًا تجاريًا مزدهرًا، تربط بين طرق التجارة الصحراوية والشمالية، إضافة إلى كونها مقرًا لعدد كبير من العلماء والفقهاء والنسّاخ وطلبة العلم.

اشتهرت تاهرت بمدارسها العلمية ومكتباتها، وكانت ملاذًا للعلماء المضطهدين من المذاهب الأخرى، وخاصة من العراق والحجاز. كان للعلماء دور أساسي في توجيه السياسة العامة، وكانت الخطابة والتعليم من الوظائف التي تتولاها شخصيات مرموقة علميًا وأخلاقيًا. وقد ساعدت البيئة المستقرة والمنفتحة في جعل تاهرت واحدة من أهم العواصم الفكرية في العالم الإسلامي في ذلك العصر.

المذهب الإباضي والدعوة إلى الاعتدال

المذهب الإباضي هو مذهب فقهي وعقدي يتميز بالوسطية والاعتدال ورفض الغلو في التكفير أو التطرف السياسي. وقد نجح الإباضيون في تأسيس مجتمع متسامح في الدولة الرستمية، حيث تعايش المسلمون من مختلف المذاهب، إضافة إلى اليهود والمسيحيين، في بيئة تحترم الاختلاف وتضمن حرية العقيدة والتجارة.

امتاز الفكر الإباضي في الدولة الرستمية بالتركيز على قيم العدل، الأمانة، الشورى، والزهد، مع إعلاء شأن العلم والتواضع. وقد انعكس هذا في المؤسسات التعليمية التي نشأت، وفي العلاقات التجارية والسياسية التي اتسمت بالمرونة والانفتاح.

العلاقات الخارجية والسياسة الدبلوماسية

مارست الدولة الرستمية سياسة حذرة تجاه جيرانها الأقوياء، خاصة الخلافة العباسية من جهة والممالك المحلية في المغرب من جهة أخرى. سعت الرستمية إلى الحفاظ على استقلالها عبر التوازن بين القوّة العسكرية والتحالفات القبلية والدبلوماسية.

كما كانت للدولة علاقات تجارية نشطة مع دول الساحل والصحراء الكبرى، وامتدت شبكات التجارة من تاهرت إلى النيجر ومالي والسودان الغربي، ما مكّنها من التمتع بثروات تجارية ضخمة، خاصة تجارة الذهب والملح والعبيد.

الجدول التالي يوضح أهم أئمة الدولة الرستمية وفترات حكمهم:

أسباب سقوط الدولة الرستمية

رغم ما حققته الدولة الرستمية من استقرار وازدهار علمي، فإنها واجهت تحديات كبيرة أسهمت في سقوطها:

1. الضغوط الخارجية: تصاعد التهديدات من الدولة الفاطمية الناشئة في تونس، والتي كانت تسعى لتوسيع نفوذها في المغرب الأوسط. أدّى هذا إلى تصادم عسكري أسفر عن سقوط تاهرت عام 296هـ على يد قوات الفاطميين بقيادة أبي عبد الله الشيعي.

2. الانقسامات الداخلية: رغم النظام الشوروي، شهدت الدولة في أواخر عهدها نوعًا من التنافس على الإمامة داخل الأسرة الرستمية، ما أدى إلى ضعف البنية السياسية وتراجع دور العلماء في الرقابة.

3. التطورات الاقتصادية: تغيّر مسارات التجارة نحو طرق أخرى، واحتدام المنافسة التجارية مع المراكز الصاعدة في فاس وسجلماسة، مما أضعف من مكانة تاهرت.

أثر الدولة الرستمية في التاريخ الإسلامي

ترك الرستميون بصمة حضارية مهمة في التاريخ الإسلامي رغم محدودية مدة حكمهم، وكان لإسهاماتهم الفكرية دور في تشكيل ملامح الفقه الإباضي وتعزيز قيم التعدد والاعتدال. كما ساهموا في تعزيز دور اللغة العربية في التعليم، وفي تطوير شبكات التجارة عبر الصحراء، بالإضافة إلى كونهم نموذجًا لدولة غير مركزية تتسم بالحكم الرشيد والشورى.

بعد سقوط الدولة، تفرّق الإباضيون في مناطق متعددة، خاصة إلى واحات الصحراء الجزائرية مثل وادي ميزاب، حيث أعادوا بناء مجتمعات صغيرة تحافظ على تقاليدهم الدينية والسياسية حتى اليوم، مما يجعل الدولة الرستمية حلقة مركزية في تاريخ الإباضية واستمرارية فكرهم في المغرب العربي.

المراجع:

1. حسن إبراهيم حسن، تاريخ الإسلام السياسي والديني والثقافي والاجتماعي، دار الجيل، بيروت.

2. نور الدين الزاهي، الإباضية في شمال إفريقيا: التاريخ والمجتمع والسلطة، منشورات كلية الآداب، الرباط.